الخميس، 15 يونيو 2017

الأربعاء، 7 يونيو 2017

سيادة الشريعة .. ( الحد الفاصل بين الإسلام والعلمانية )....الجزء الثانى والاخير.

تأمل قول الله تعالى )وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49)

فلو قارنا بين هذه الآية وفكرة تقديم سيادة الأمة على تحكيم الشريعة فإننا سنجد أن دعوى سيادة الامة المقابلة للشريعة هي المعبر عنها في قوله (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) وقوله عنهم (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) وهذا يدل على ان من قدم اهواء الناس على شريعة رب العالمين فقد عرض إيمانه للتلف وإسلامه للبطلان.

فالمناقض لأصل الإسلام أن تكون الشريعة مرهونة بأهواء الناس قبولاًأو رداً، وتكون آراء الناس هي الحاكمة بشرعية النظام الذي يحكمهم، ويقضي بينهم.
وحاكمية الشريعة و القبول بالإسلام والتسليم له لا يجوز ان تكون مرتهنة لأحد بل وجوب العمل بها متقدم على كافة الحقوق الفطرية والانسانية، وحاجة الانسان إليها أكبر من حاجته إلى الطعام والشراب والهواء.

وحقيقة الاسلام الاستسلام، والقبول، والتسليم لخبر الله وأمره، ومن جعل تحكيم شريعة الله مشروط بالأمة فهو كمن جعل تصديق خبره مشروط بالأمة، وهذا التعليق يدل على عدم التسليم والتصديق للأمر والخبر.

يقول أبو حامد الغزالي في المستصفى: " وأما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ".

فالغزالي هنا لا يتحدث عن اعتقاد وجوب الواجبات وتحريم المحرمات بل يتحدث عن " نفوذ الحكم " وهو " تطبيق " و " تحكيم " الشريعة، وهذا أمر متقرر عند كافة علماء الإسلام بكل طوائفهم وفرقهم.
يقول ابن تيمية: " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً ومرتدا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله – على أحد القولين – " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله " ( الفتاوى 3/ 267 )، والنصوص في هذا كثيرة جدا.

وقد أجمع العلماء على كفر من سوغ وأجاز الخروج على الشرع، ومن قواعد الإسلام الكبرى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، واتفق العلماء على أنه لا طاعة للوالدين إذا كان في ذلك مخالفة لشريعة الله فكيف يقال بجواز أن يختار الناس ما يحكمون به ولو مخالفاً للشرع حتى ولو كان ذلك أمراً مفترضاً، فالافتراض هو تجويز الشيء إذا وجد وليس بالضرورة أن يوجد.
وقد أجمع علماء الإسلام على أن الشورى لا تكون إلا في المباحات، أما الواجبات والمحرمات فلا شورى ولا اختيار فيها، وهذا هو مقتضى العبودية كما قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(الأحزاب: من الآية36 ) . فكيف تجعل الشريعة كلها بكل واجباتها ومحرماتها لا تحكم حتى تجاز من قبل الأمة، وإذا لم تجز فلا يجوز تطبيقها وتحكيمها ؟!
يقول ابن كثير: " والآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هنا ولا رأي ولا قول ".....
لم يعد هناك فرق جوهري بين الفكر العلماني والتنويري حول الموقف من سيادة الشريعة، فالأمر المحوري بينهما أن السيادة ترجع للامة وليست للشريعة، وهي السلطة العليا التي تعود اليها جميع السلطات الثلاث، وبهذا فهي تملك حق التشريع، والجهة المخولة في إصدار القوانين سواءً وافقة الشرع أم خالفته، وهذا يشمل التشريعات الإدارية التنظيمية كما يشمل التشريعات القضائية التي تشمل التشريعات الجنائية والشخصية والمالية وكافة أنواع التشريعات التي تخص الحكم بين الناس، كما تشمل السياسات العامة التي تعود إليها كافة أنشطة الدولة .. وهذه التشريعات صاحب السلطة والسيادة فيها هو الله جل جلاله، وإعطاء الامة حق التشريع فيها هو الحكم بغير ما انزل الله، وهو التحاكمإلى الطاغوت، لأن الحكم لله تعالى، وتحقيقه من العبادة لله تعالى، يقول تعالى: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )(يوسف: من الآية40) ، ويقول تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59) ، وهذه النصوص هي في الحكم بين الناس، وليس في العقائد الإيمانية القلبية، وهي في التطبيق للشريعة وليس في اعتقاد الشريعة.

وقد كان الخلاف مع التنويريين أول الأمر حول آليات الديمقراطية ومدى موافقتها للمقاصد الشرعية، ولكنهم تجاوزوا ذلك إلى المطابقة التامة للعلمانيين في جعل السيادة للأمة وهي الجهة العليا التي تعطي الشرعية للشريعة أو غيرها، وبهذا لم يعد هناك فرق بينهم وبين العلمانيين إلا في الاسم، وهذه نتيجة طبيعية لمن يجعل المفاهيم الوضعية حاكمة على الشريعة ثم يقوم بتحريف الشريعة لتتوافق معها، وهذا مخالف للمنهج الاسلامي الذي يجعل الشريعة هي الحاكمة، ثم يحكم من خلالها على المفاهيم الوضعية، كما انها نتيجة طبيعية لمن جعل زاده الثقافي دراسات العلمانيين العرب، بل يروجها ويبيعها وينصح بها باسم الانفتاح !!
وقد هالني تمدح بعضهم وافتخاره بالانتقال الجديد في الخطاب التنويري من الكلام حول آليات الديمقراطية الى الجدل حول سيادة الشريعة، وظنه انهم احدثوا نقلة في الخطاب السلفي حسب زعمه، وما درى انها انتكاسة فكرية، وسقوط منهجي، وتحول خطير نحو العلمنة !! فأي فخر للانتقال الى الأسوأ، وأي مدح في الحط من سيادة الشريعة ؟!!

وهذه المنهجية المنحرفة هي التي جعلت التنويريين ينطلقون من منطلق علماني في اغلب المفاهيم السياسية الجديدة كمفهوم المواطنة، والحرية، والطائفية وغيرها، ففي هذه المفاهيم وغيرها يتم شرحها بما يتطابق مع الفكر العلماني تماما، فالمواطنة هي التعامل مع المكونات المجتمعية على اساس وطني مصلحي وليس على اساس ديني، والحرية هي عدم المنع للاختيارات الشخصية للأفراد ولو كانت محرمات ظاهرة، ويحق للفرد ان يعبر عن رأيه ومعتقده ويدعو اليه ولو كان كفرا صريحا ( حرية المنافقين )، والطائفية هي التعامل مع التيارات الفكرية والفرق المخالفة للسنة من منطلق عقدي، وهذه المفاهيم المنحرفة يجمعها استبعاد المنطلق الديني، وتحجيم المنهج الاسلامي في التعامل الاجتماعي، وجعله اختيارا خاصا لا يتحرك في الحياة ويحكمها، وأخص مكونات الفكر الليبرالي العلماني نزع الالزام في الشريعة الربانية، ولهذا فاخصر تعريف لليبرالية ( منع المنع )، فماذا ابقى هذا التيارللفكر العلماني والليبرالي؟!......
يصر بعض التنويريين ممن لم يحدد خياره العلماني بعد على الخلط بين السيادة للأمة المتضمنة لحق التشريع المطلق كما قدمناه، وبين رفض الاستبداد والتغلب والتوريث، فيجعل من يرفض ارجاع تحكيم الشريعة الى موافقة الامة، وعدم استحقاقها للهيمنة على المجتمع الا بعد اجازتها من الامة .. يجعل ذلك في صف الاستبداد والتغلب والتوريث، وهذه مغالطة لان من يجعل اختيار الحاكم حق للامة يجعل - ايضا - الحاكم والامة التي اختارته تحت سيادة الشريعة وحكمها، فالحاكم وكيل ونائب عن الامة في اقامة الدين وتحكيم الشريعة في الناس، ومعيار تحقيقه لمقتضى الوكالة هو التزامه بحكم الشرع في شؤونهم العامة والخاصة، واذا لم يفعل ذلك يجب عزله وفسخ حكمه، وهذه قضية في غاية الوضوح في المنهج الاسلامي، وهي الفارق المنهجي بين دور الامة في المنهج الاسلامي والمنهج العلماني...المصدر-مركز التأصيل للدراسا
ت والبحوث.

سيادة الشريعة .. ( الحد الفاصل بين الإسلام والعلمانية )... الجزء الاول

لحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن من أعظم محكمات الإيمان التسليم والخضوع ( علماً وعملاً ) لشريعة الإسلام في المنشط والمكره، والرضا والغضب، وعدم تقديم أي أمر من الأمور على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الحجرات:1) ومعنى ذلك أنه لا يقدم على الشريعة أي أمر من الأمور مهما رآه صاحبه أمراً حسناً سواءً كان عقلاً، أو حرية، او أمة أو غير ذلك.

والإقرار بهيمنة الشريعة وحاكميتها وتقديمها والقبول بها قولاً وعملاً دون أي شرط أو استثناء هو قاعدة الايمان وأصله كما قال تعالى: )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)

ومع وضوح هذه الحقيقة الشرعية وانعقاد الاجماع عليها فقد حاولت التيارات العلمانية والتنويرية الانتقاص من ذلك بجعل السيادة للبشر، وعدم القبول بالشريعة حاكمة بالفعل في حياة الناس إلا بشرط التصويت عليها لتنال الشرعية في التحكيم، ويرون التفريق بين الإيمان بالشريعة اعتقاداً قلبياً، وتحكيمها واقعاً عملياً، وهذا هو الفصل العلماني الشهير بين الدين القلبي الإيماني، والدين العملي الحاكم والمهيمن على حياة الناس، وهي فكرة خارجة عن النسق الاسلامي ومخالفة لإجماع المسلمين ولم تعرف إلا بعد أزمنة الاستعمار على يد العلمانيين.
ولا يتعارض - حسب التصور العلماني - الاجتماع بين الاعتقاد الشخصي بالحلال والحرام، والتشريع المبدل لأحكام الشريعة، لأن الأول اختيار شخصي، والثاني حق من حقوق الأمة، وعندما تختار الأمة الشريعة فإن شرعية تطبيقها وتحكيمها لم يأت من كونها ربانية الأمر والنهي، وإنما لكونها تحققت فيها السيادة المعتبرة، وهي سيادة الأمة.
وهذا التصور في غاية التناقض فما هي فائدة اعتقاد الحلال والحرام إذا أقرّ بشرعية تبديله في حال حصول ذلك من الأمة ؟، هذا اعتقاد لا قيمة له لأنه معارض باعتقاد آخر وهو شرعية التبديل إذا تم من خلال الأمة !!....مفهوم السياده-

السيادة في اللغة والاصطلاح مرجعها واحد فهي مأخوذة من السيد وهو المتصرف المطلق، وصاحب الأمر والنهي والذي تعود اليه كافة السلطات الثلاثة، ومنها سلطة التشريع، وقد ظهرت في الفكر الغربي لدى المدرسة القانونية الفرنسية المعبرة عن العقد الاجتماعي كما يراه جان جاك روسو، والسيادة هي المعبرة عن الإرادة العامة عند روسو، وهي السلطة العليا التي لا توجد فوقها ولا تحكمها ولا تهيمن عليها أي سلطة مهما كانت.

و" سيادة الأمة " في الفكر السياسي المعاصر هو التعبير القانوني للنظام الديمقراطي، فهو الوجه القانونيوالمبرر العقلاني لاستحقاق السلطات، وهو يعطي الأمة أو الشعب السلطة العليا في التشريع، فلا قانون إلا ما اقرته الأمة، وما اتفقت عليه الأمة فهو القانون الشرعي الذي يجب الاذعان له لأنه نابع من سيادة الأمة واستحقاقها للتشريع المطلق.

وعليه فلو أحلت الأمة حراماً او حرمت حلالاً فهذا ما يجب القبول به، ولا يجوز الخروج عن سيادتها، وبهذا تكون الامة هي صاحبة التشريع والحاكمية لامتلاكها السيادة المطلقة، وبغض النظر عن نوع الاختيار الذي تختاره الأمة، ففكرة السيادة تجعل المرجعية العليا للامة وليس للإسلام والشريعة الربانية.

وبهذا يتبين ان سيادة الامة تجاوزت اختيار الافراد للحكم كآلية من خلال الانتخاب الى ان اصبحت السلطة العليا التي بيدها السيادة المطلقة ومنها تشريع القوانين، وهذا هو جوهر الفلسفة الديمقراطية التي كان يرفضها بعض التنويريين قديماًلأنها تعطي حق التشريع لغير الله تعالى.

ومن الخداع والمغالطة تسمية اختيار الناس لمن يحكمهم من خلال الانتخابات " سيادة "، وتقديمها على الشريعة، ثم حكاية كلام من يبيحها على أنه يرى " السيادة للأمة " !!، لأنه يمكن أن يتم اختيار من يحكمهم مع كون الشريعة هي صاحبة السيادة والهيمنة والحاكمية، فالأول عمل اجرائي تنظيمي مجرد له صور مختلفة منها الصحيح ومنها الزائف، أما منازعة سيادة الشريعة وحاكميتها فهو مناقض لأصل الايمان.

كما ان من المغالطة قول القائل " سيادة الامة بمرجعية الشريعة "، فالسيادة هي المرجعية العليا للسلطات الثلاثة ( التشريعية، والقضائية، والتنفيذية )، فكيف تكون سيادة بمرجعية وهي ذاتها المرجعية ؟! وبهذا يتميز من يجعل المرجعية للشريعة ممن يجعل المرجعية للأمة.

ومن يجعل السيادة للأمة لا يمانع من الإيمان القلبي والنظري بأحكام الشريعة، ولكنها لا تكون نافذة الا من خلال مرجعية الأمة، وهو يرى أن من حق الامة ان تختار ما تشاء، فهذا حقها وهذه حريتها، وعليه فلو اختارت الامة اباحة المحرمات الظاهرة، وعدم الالتزام بالواجبات الظاهرة فهو حق مشروع لها لأنها صاحبة السيادة، وهذا التأسيس لاستحقاق الامة السيادة المطلقة هو الحكم بالطاغوت لأنه استحلال للمحرمات الظاهرة، وترك الواجبات الظاهرة حتى لو لم يفعلها، وهذا هو الحكم بغير ما انزل الله، واستحلال القوانين الوضعية، وهي الاشكالية الكبرى بين الاسلام والعلمانية في العصر الحديث.
يقول الدكتور عبدالرزاق السنهوري ( وهو أحد كبار القانونيين العرب، وغير محسوب على التيار السلفي ):" روح التشريع الإسلامي يفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في كل المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن، وسنة رسوله المعصوم الملهم ثم إجماع الأمة" ( فقه الخلافة وتطورها ص 70 )

هل يصح تطبيق الشريعة بالإكراه؟ أم لا بد من الاختيار؟

سؤال شائع، تتلاحق الإجابات عليه: نعم/ لا.
لكن القليل من توقف قليلاً فأخذ يفكك هذه العبارة،


ما معنى الإكراه، والاختيار هنا؟

معناها  هو التحاكم إليها والإلزام بها من غير تصويت يسبقه حملات إعلامية لمن يقبل أو يرفض ثم بعد ذلك ينظر في رأي الأغلبية، فإذا ظهر عدد معين عرفنا وجود الاختيار، وبدون هذا يكون إكراهاً.

فالإكراه هنا والاختيار مبني على رؤية وفلسفة مسبقة.

فقبل الجواب، أو الحديث عنها، أو البحث عن دلائل وترتيب أحكام عليها.


الواجب أن نعرف ما هو الاختيار والإكراه في المفهوم الإسلامي؟

هل هذا يعد إكراهاً؟

من أسلم فقد رضي بأن يحكم بالإسلام، فلا يوجد في الشريعة بالنسبة للمسلم شيء اسمه الرضا بحكم الإسلام، حكم الإسلام تابع ولازم لإعلان المسلم شهادة أن لا إله إلا الله ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين، وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت).

فحكم الإسلام تابع للإيمان به، ليس هناك درجة أخرى تتعلق باختيار حكم الإسلام، فكما أن من أسلم فقد رضي أن يصلي ويصوم ويحج فقد رضي أن يكون احتكامه إلى الإسلام، فلا يحتاج إلى إيمان جديد أو اختيار جديد، الظن بوجود مشروعية جديدة هنا غير مفهوم في السياق الإسلامي.

وعليه، فخضوع المسلم لأحكام الإسلام خضوع اختياري لازم لإيمانه، لا معنى لأن يخير في ذلك، ولا يقال هو إكراه، فتسمية هذا (إكراهاً) هو مبني على أن الشخص يفكر  عبر منطق مختلف.

لهذا كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم وحكم خلفائه الراشدين وحكم من بعدهم خلال قرون طويلة قائماً على صورة مختلفة لو طبقنا عليها معيار (الإكراه والاختيار) هذا لأصبحت إكراهاً بلا اختيار!

وأما مراعاة رضا واختيار كل أحد مع كل حكم فهذه مما لا يقول بها أحد،  إلا عند الاتجاه العلماني الذي ينفي أصل الإلزام.

لهذا فسؤال حكم تطبيق الإسلام من خلال الإكراه، سؤال فيه مغالطة، فهو يستحضر في (الإكراه) و (الاختيار) مفاهيم خارجة عن الإسلام ويريد محاكمة الإسلام إليها.

والله أعلم.

بين الدولة الدينية والمدنية.....

الدولة في الإسلام:
هل هي دولة (مدنية) ..
 أم هي دولة (دينية)؟


هو سؤال ملغوم من البداية، كحال كثير من الأسئلة التي تطرح في ساحتنا الثقافية، يكون السؤال بحدّ ذاته محمّلاً برواسب وإشكالات تؤثّر على أي جواب عنها مهما بدا الجواب قوياً وصحيحاً.

فمن الخطأ المنهجي الكبير أن يتجه الشخص مباشرة إلى الجواب من دون تأمل عميق في السؤال، فالقاعدة المنهجية أن يفحص المتلقّي السؤال قبل أن يقدّم أي معلومة أو جواب عنه، وكثيراً ما تمرر جملة من المعلومات أو الاتجاهات المنحرفة من خلال طريقة السؤال المخادعة.

لأجل ذلك أحسن  الدكتور "عبد الله الفراج" في مشاركته حين قال:

(من الذي أتى لنا بمصطلحي المدنية والدينية؟ ثم يريدنا أن نختار؟)

فقبل الاختيار .. لا بدّ أن أعرف (لماذا اختار) و (كيف اختار).

وهو ما أكّده الأستاذ "ماجد الأسمري" حين قال :

( قبل الدخول في معترك المفاضلة يفضل تحديد المراد من المفهومين).


فالاستفصال قبل تقديم أي جواب.
وحين نبدأ في تفكيك السؤال، سنجد أن مصطلحات (الدولة المدنية) و (الدولة الدينية) مصطلحات دخيلة كما قال الشيخ "محمد شاكر الشريف":

( الدولة عندنا إسلامية ولسنا ملزمين بالتقيد بالمصطلحات الدخيلة).


فهذه المصطلحات لها جذورها الفكرية والتاريخية في البيئة الغربية التي نشأت فيها، فالحكم الديني يطلق على الحكم الذي يستمد مشروعيته من (الله) ويكون الحاكم فيها ناطقاً باسم الله وأنّه مفوّض للحكم من الله، وهو ما كانت تمارسه الكنيسة بطغيانها وتجبرها في أوروبا خلال قرون العصور الوسطى.

فهي فترة تاريخية عميقة التأثير والحضور في الفكر الغربي، أصبحت فيما بعد تعدّ نموذجاً من أنظمة الحكم الشهيرة، ويقابلها النظام المدني الذي يحكم من دون أن يدّعي أنه ناطق باسم الله أو مفوّض للحكم من الله، بل يحكم برؤية وفلسفة فكرية مناهضة ومختلفة تماماً عن الرؤية الأخرى، وتقابل تطرّف الأولى في ادعاء المشروعية من الله بتطرّف آخر يقوم على نفي أي تأثير للدين على النظام والحكم.
فهذه الكلمات "دينية" أو "مدنية" ليست مصطلحات بريئة، أو مجرد مفردات لغويّة.

 وربّما يتسامح الشخص مع من يفسّرها ويوضّح مقصوده كما فعل أخونا "سهيل العجلان" حين قال:
 (الدولة في الإسلام دولة مدنية دينية حتى عسكرية الدولة عبارة عن منظومة).

 أو كما ذكرت الأستاذة "هدى إبراهيم" حين تساءلت:

 (ما تصير تكون مدنية دينية).


أو  ما كتب أخونا (مشعل الدرعان):

 (الأولى أصح ، والفرق أن الأولى ولائها للدين ، والثانية ولائها للوطن .)


 لأن مقصودهم  واضح وصحيح، لكن الإشكالية أن هذه المفاهيم لا يتلقاها الشخص منك فيفهمها كما تريد، فلها معانٍ مشهورة وواضحة فليس المعنى الذي تقصده هو ما سيصل إلى ذهن المتلقي.


فهل الدولة في الإسلام دولة دينية أم مدنية؟


طبعاً،  لا هذا ولا هذا، بل السؤال في تركيبته خطأ، لأنه لا يعرف من أنظمة الحكم إلا ما عرفته أوروبا، ولا يفكّر في الآخرين إلا من خلال ما يعرفه عن أوروبا، فأتفهم جداً أن أسمع هذا السؤال من شخص أوروبي لأنه يسألك بحسب ثقافته  وما يعرفه، لكن المؤسف أن يقدّم هذا السؤال عربي ومسلم فلا يعرف إلا ما يعرفه الأوربيون؟؟

فالنظام في الإسلام ليس (دينيا) بالمفهوم الغربي يقوم على أن أحداً مفوّض من الله لحكم الناس، أو أنه ناطق باسم الله، وليس (مدنياً) بحتاً لا يكون للدين فيه اعتبار.

بل هو نظام (إسلامي) ..

 مرجعيته وقانونه مستمدّ من الكتاب والسنة، والحاكم فيه شخص من الناس يتم اختياره برضاهم ومشورتهم بأي طريقة تحقق مصلحة دينهم ودنياهم، وهذه الشريعة هي فوق الحاكم والمحكوم فكلاهما خاضعان لها وملتزمان بتطبيق أحكامها، ولا مشروعيّة لأي حكم في الإسلام يقوم على (إبعاد) الشريعة من الحكم.

فليس لهذا الحاكم قداسة ما فعلت (الدولة الدينية) في النظام الغربي.

ولا يكون إلغاء هذه القداسة مؤدياً لإلغاء الدين تماماً عن الدولة كما فعلت الدولة المدنية في النظام الغربي.

ولأجل هذا كان أخونا "عبد الكريم القرشي" دقيقاً حين قال:

 ( الدولة في الإسلام دولة إسلامية).


 وكفى.

وبهذا يتمّ تفكيك السؤال ومعرفة المدخل الصحيح للتعامل معه، حتى لا تكون مثل هذه الأسئلة معابر لمرور الأفكار المنحرفة وكما قال أخونا "عبد الرحمن كركوك" من تجاربه:

 ( والصراحة أني من خلال تجربتي البسيطة رأيت أن الكثير من الأسئلة التي يوجهها لنا بنو علمان تحمل في طياتها الخبث , فهي فخاخ , فإن قلنا دولة مدنية خرجوا علينا بمجموعة من الإفتراضات و الشبهات).


وقد ذكر أخونا "محمد العلي" في مشاركته أن:

(ن قلنا دولة دينية خرجوا علينا بمجموعة أخرى من الإفتراضات و الشبهات العبارة الثانية (دولة مدنية) تعني أن التشريعات الدنيوية البحتة ليس للدين أن يتدخل فيها . فالربا مثلاً عملية دنيوية تتم برضى الطرفين وتحقق مصلحة لكليهما وعليه فليس للدستور تجريمها إستناداً للحلال والحرام في الدين إن الدولة في الاسلام هي دولة دينية مئة في المئة).


وقد أصاب وأحسن في إزاحة الإشكال عن مفهوم "الدولة المدنية"

لكنه إثباته المطلق للدولة الدينية قد أوقعه في مشكلة أخرى، لأنه وإن كان يقصد بالدولة الدينية معنى صحيحاً إلا أنّ المتلقّي لا يفهم بالضرورة منها ما تفهمه أنت، فالإشكالية أن الخطأ في أحد العبارتين يؤدي إلى الخطأ في العبارة الثانية، فحين تؤيد الدولة الدينية مطلقاً فمعناه أن رفضك للدولة المدنية وإن كان بتفصيل وتوضيح سيكون مبنياً على المفهوم المنحرف للدولة الدينية.

هو باختصار - أيها الأكارم-  منهجية "الاستفصال" التي قررها أئمة الإسلام من قديم.

وقد فطن لها أخونا "مروان بالحداد" فكتب ما نختم به الموضوع ونصّلي ونسلّم بعدها على المصطفى الحبيب:

(من خلال فهمي القاصر لظاهر المصطلحين لا يمكن الجزم بأحدهما . .
فهل المقصود مدنية على الشريعة الإسلامية . .؟
أو مدنية أي كالديموقراطية . .؟
أو دينية المقصود بها التقيّد بشريعة الإسلامية . .؟
أو دينية كحال أوربا القديمة . .؟).

سيادة المبدأ الليبرالي أم الإسلامي؟

من حوار سيادة الأمة والشريعة تكرر هذا السؤال كثيراً:
هل  نسلك في تحكيم الشريعة مسار التعاقد السلمي، أم التغلب؟

أستأذنكم أن نسحب هذا السؤال إلى باب المدخل الذي تكلمنا عنه بالأمس، فنجعله مثالاً تطبيقاً له.


المدخل يقول:

ليس هناك إرادة مطلقة للأمة، لا يوجد إرادة مفتوحة للأكثرية، الإرادة في كل النظم المعاصرة مقيدة بفلسفة أعلى منها، ليبرالية أو اشتراكية أو إسلامية أو غيرها.
فالنظم السياسية المعاصرة تضع قائمة طويلة من الحقوق والمفاهيم ملزمة للأكثرية، فإرادة المبدأ الليبرالي هو المسيطر هنا، وهي التي تنازع إرادة الشريعة، وأما إرادة الأمة فهي مقيدة على كل حال بمنظومة أعلى منها.
فالنزاع إذن ليس بين سيادة الأمة والشريعة، بل بين سيادة المبدأ الليبرالي وسيادة المبدأ الإسلامي، فأيهما له الحق بأن يكون قيداً ومنظومة عليا للأمة؟


نأتي على سؤال:
 هل نحكم الشريعة بالعقد السلمي أو بالتغلب؟


ما هو العقد السلمي؟
هل عليه قيود؟
أم هو عقد مفتوح يجتمع الناس فيضعون ما يريدون ويشتهون وبإرادة حرة مفتوحة؟

طبعاً، عليه قيود كثيرة،  وثم مفاهيم وأعراف والتزامات قانونية طويلة جداً لا يمكن أن يتجاوزها هذا العقد، بل إن عملية العقد هذه هي صورة خيالية، وأما الواقع  فأنه ليس إلا تصويت للناس في نظام سياسي محدد ومفصل، وليس لهم إلا لزوم هذه الطريقة، ولا يمكن للناس أن يفكروا – مجرد تفكير – في مناقشة أو منازعة هذا الواقع.

 فلا يمكن أن تزيل هذه المفاهيم أو تضيقها أو تصوغ شيئاً جديداً يخالفها عبر تداول سلمي، لأنها هي أساسات العقد،  ولو تم انتهاك شيء من هذه المفاهيم فيجب إرجاعه ولو بالقوة والعنف لأنه حق طبيعي للشعوب لا يجوز المساس به.


حسناً، لماذا لا تكون أحكام الإسلام القطعية ضمن هذه القيود؟

لماذا لا تكون أحكام الإسلام الخالدة، التي نؤمن أنها هي العدل والخير والرحمة، وهي التي كانت حاكماً فعلياً طيلة قرون طويلة، وهذه بلادها وأهلها؟
الجواب، لأن العقد الليبرالي المعاصر لا يدخلها ضمن العقد السلمي.
فلو قال شخص: لنأت بالشريعة ونضعها ضمن العقد.
سيقال: هذا تغلب ولا يجوز لك أن تفتات على حق الأمة!
لماذا كان تغلباً؟
لماذا لم يكن هذا التصرف تصرفاً سلمياً؟
لماذا نقبل حدوداً كثيرة تقيد العقد ولا يمكن المساس بها ، ولا تكون الشريعة ضمنها؟
لماذا هناك مبادئ فوق دستورية، لا يصوت عليها ولا يمكن أن يجري عليها أي تغيير، وأما الشريعة فلا يمكن لها ذلك وليس هو من حقها؟


بكل بساطة:

 لأن العقد مقيد ومؤطر بمفاهيم ليبرالية، فإذا فكرنا من داخل هذا العقل سنقول تقييد إرادة الناس بالشريعة هو عنف؟ ولا يمكن تحقيقه ولو بطريقة سلمية إلا عبر طريق واحد هو التصويت والانتخابات والإعلام وما يترتب عليه من منظومة طويلة.

فلو قلت: هل ممكن للناس في حال العقد أن يتفقوا على حرمان الأقلية من جزء يسير من الحقوق؟
سيصيح في وجهك لا، ولا يمكن، ولا يحق لك، وليس هو من ضمن العقد، والعقد لو قام به فهو عقد جائر.
أها،
  أين ذهبت إذن تلك الأسئلة التي كانت توضع في وجه حكم الشريعة؟
لماذا لم يكن إدراج هذه المادة تغلباً؟
لماذا لا يجري عليها تداول سلمي لها كما يجري على الشريعة؟
من الذين سلب الأمة من حقها واستطاع أن يفرض عليها أن لا تفكر – مجرد تفكير – في مناقشة هذه القضية.


أرأيتم الآن:

فسؤال: مسار العنف، ومسار التغلب،
منطلق أساساً من محددات ليبرالية، فسَّرت لك ما هو مسار السلم،  وفسَّرت لك ما هو مسار التغلب، وصارت تحدد لك ما يجب عليك أن تفعله، وما لا تفعله.

 فلأن الشريعة لم تدخل ضمن القيود  فليس لها إلا مسار السلم، ولا يحق لها القوة، ولو جاءت بغيرها فهو تغلب مرفوض، بل لا يمكن أن تطبق الشريعة إلا عبر هذه الطريقة، وأي طريقة حكمت بها الشريعة بغيرها فهو استبداد وتغلب في الحاضر والماضي والمستقبل.

وأما المنظومة الليبرالية فهي مقيدة للعقد ولا يقول أحد إن ذلك تغلب، ولا أن أخذه بالقوة تغلب، لأنه حق طبيعي.


فصورة المسألة أن سيادة الأمة ليس لها علاقة بالموضوع، والنزاع ليس مع سيادة الأمة.


الإشكال في السيادة التي تقيد الأمة وتوجهها وتعلو عليها، هل يكون هو المبدأ الليبرالي، وبالتالي فالعقد لا يمكن أن يتجاوزه، ولو أخذ منها فيجب إعادته ولو بالقوة، وأما الشريعة فشأنها شأن أي منظومة فكرية أخرى، إن حازت الأكثرية حكمت لأن الأكثرية أعطتها الشرعية، وإن لم تحز فلا شرعية لها، وإن ارتفعت دستورياً فيمكن أن تنخفض،  والشرعية والطاعة والحكم والخضوع لهذا النظام الذي رفضها وأقصاها، فحقيقة هذا القول أن ثم نظاماً أعلى من نظام الشريعة لا بد أن تمر الشريعة من خلاله، فتقبل وترفض وتقيد بحسب هذا النظام.

بل وحتى لو حكم بالشريعة من خلال هذا الإطار فإنه لن يحكم بها إلا حسب شروط ومفاهيم من وضع لك هذا الإطار، لهذا تحكم الشريعة ويمكن أن تسقط، فهل من تحكيم الشريعة أن تجعل إسقاطها مشروعاً وممكناً وتجتمع له الدوافع وتهيأ له الظروف!

أو تكون السيادة للمبدأ الإسلامي، الذي يجعل أحكام الإسلام إطاراً كلياً لا يتجاوز، وللناس حرية واسعة في اختيار السلطة والنظام والقوانين ومراقبتها ومحاسبتها وكافة الضمانات السياسية والقانونية المعاصرة، مع ضرورة الاستفادة من كافة الوسائل والأدوات التي تحفظ الحقوق والعدل وتمنع الجور والتعدي، فالنزاع ليس في هذه الأدوات، إنما في الإطار الكلي الذي يقصي الشريعة.


فهنا محل الخلاف.
 السيادة لأي المبادئ؟


وأما سيادة الأمة فهي مقيدة على كل حال.

وفي السؤال ثغرات عدة، لكن المقصود هنا إظهار المنظومة المستترة، وأن الإشكال ليس في طريق السلم أو العنف، بل في الإطار الكلي الحاكم الذي صار يحدد لنا أين يجب أن تكون الشريعة! يس هذا الموضوع ترفاً ولا هامشياً، هذه تصورات ومفاهيم شرعية ، الخلل فيها يتبعه قائمة طويلة من  التأويلات والتحريفات للحريات والجهاد والحدود والمشروعية وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء والفتوحات وغيرها، فهذه الفكرة منتزعة من سياق ثقافي مختلف فالقبول بها لن يستقيم في الفكر إلا بعد تكسير متواصل لمفاهيم ونصوص شرعية عدة ترفض هذه المفاهيم الجديدة.

وتبقى فكرة نظرية لا تصلح واقعاً، ولا تحفظ شريعة.


اربعون عاما قبل النبوة,....الجزء الخامس والاخير

اعادة بناء الكعبه--وتبني قريش الكعبة بشرط مسبوق : " ألا يدخل في بنائها إلا طيبا ، فلا يدخل فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة لأحد من الناس " .
ويشارك النبي الكريم صاحب الخمس وثلاثين عاما في البناء ، ويحمل الحجارة من الوادي مشاركا قومه في مثل هذا الحدث العظيم .
ويرتفع البناء ، ويعود للبيت جلاله وهيبته ، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود حصل الاختلاف ، وتنازع القوم في شرف وضع الحجر الأسود أربع ليال أو خمس حتى كادت الحال أن تتحول إلى حرب ضروس !! إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد . فارتضى القوم ذلك .
فإذا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب يكون ذلك الداخل . فهتف القوم : أن رضينا بالأمين .
فطلب عليه الصلاة والسلام رداءً فوضع الحجر وسطه ، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف ذلك الرداء ، وأمرهم أن يرفعوه ، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه . فرضي القوم بذلك ، وانتهى نزاع كادت دمائه أن تصل إلى الركب !!

وتمر الأيام ... وغربة النبي الكريم تزداد يوما بعد يوم ، فوجوه يعرفها ، وأحوال ينكرها ، كان ذا صمت طويل يزدان بالتأمل والنظر ، لقد كانت تلك الفطرة التي جُُبل عليها تمنعه من أن ينحي لصنم ، أو يهاب وثن .
فاعتزل القوم لما رأى من سفاهة أحلامهم ، وتفاهة عقولهم ، فكان عليه الصلاة والسلام لا يحضر عيدا لوثن ، ولا يشهد احتفالا عند صنم ، ولا يحلف بالاّت ، ولا يتقرب لعزى ، ولا يشرب خمرا ، ولا يأكل مذبوحا على نُصب ، فأبغض ذلك كله . يقول مولاه
زيد بن حارثة رضي الله عنه : " ... فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه " .
فكان عليه الصلاة والسلام موحدا على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام .
لقد جمع الصادق الأمين من الأوصاف والشمائل ما جعلت محبته لا تقف عند البشر ، بل تتعداه إلى الحجر والشجر ، يقول عليه الصلاة والسلام بعد أن أكرمه الله بالرسالة : ( إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ) !! .
فصلوات ربي وسلامه عليه .

وتمر الأيام ... حتى بدأ طور جديد من حياته صلى الله عليه وسلم ، فكان يرى الرؤية ثم لا يلبث حتى يراها واقعا مشهودا أمامه ، فكان ذلك بداية بشرى النبوة والرسالة والاصطفاء ، لتكون البداية الحقيقة في الغار بـ { أقرأ باسم ربك الذي خلق } ، وينادي المنادي في أصقاع المعمورة : إن محمدا قد بُعث !!

فإذا عقارب السنين والأعوام قد دقت الأربعين !!
فصلوات ربي وسلامه عليه ..... المراجع .

* مسند الإمام أحمد .
* صحيح البخاري .
* صحيح مسلم .
* جامع الترمذي .
* صحيح وضعيف الجامع الصغير للألباني .
* سيرة ابن هشام (1/164) وما بعدها .
* الفصول في سيرة الرسول لابن كثير (83) وما بعدها .
* الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/32) وما بعدها .
* مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن
عبد الوهاب (25) وما بعدها .
* الرحيق المختوم للشيخ صفي الرحمن المباركفوري (71) وما بعدها .
* السيرة النبوية للشيخ محمد الصوياني (1/21) وما بعدها


اربعون عاما قبل النبوة, ... الجزء الرابع

12-حرب الفجار--وقعت تلك الحرب سوق عكاظ بين قريش ومعهم كنانة وبين قيس عيلان ، فاصطف القوم ووقعت حرب ضروس ، وكان النبي الكريم يجهز النبل للرمي ، وكثُر القتل في الطرفين ، حتى رأى عقلاء القوم أن وضع أوزار الحرب والاصطلاح خير من الملحمة ، فهدموا ما بينهم من العداوة والشر ، وعلى أثر ذلك حصل :.....13-حلف الفضول--
إنه حلف الخير والعدالة ، تداعت إليه قبائل من قريش في ذي القعدة ، وكان اجتماعهم في دار عبد الله بن جدعان التيمي ، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه ، وشهد هذا الحلف النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم - ، وقال عنه بعد أن أكرمه الله بالنبوة : ( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت ) .
ولا عجب في ذلك ، فهو نبي العدالة والرحمة ..
وتمضي الأيام ... ويبلغ النبي الكريم الخامسة والعشرين من عمره ، ليخرج إلى :...14-تجارة الشام --

وذلك في مال لخديجة بنت خويلد ، بعد أن سمعت بأخبار الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم ، وجعلت معه غلام لها يُقال له : ميسرة .
ذهب النبي الكريم إلى الشام ، فما لبث أن رجع إلى مكة ، فرأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تره من قبل ، وحدّثها ميسرة بما رآه من حال الصادق الأمين ، فما كان منها إلا أن سعت ليكون الخبر في أرجاء مكة :...15-محمد(صلى الله عليه وسلم )جوزلخديجه (رضى الله عنه)--
وذلك بعد أن تقدم لها سادات قريش ، فكان الإباء عليهم هو الجواب .
ثم لمّا رأت ما رأت بعد تلك التجارة المباركة : عزمت على نية أفصحتها لصديقتها : نفيسة بنت منبه . فقامت بدورها بذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم . فرضي بذلك ، إلا أن والد خديجة حاول عبثا الوقوف أمام هذا الزواج الميمون ، إلا أن حيلة خديجة كانت حَكَمَاً قاضيا في الموضوع ، فما الذي فعلته خديجة ؟
يروي لنا ابن عباس رضي الله عنهما ذلك فيقول :
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة – وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه - ، فصنعت طعاما وشرابا ، فدعت أبوها وزمرا من قريش ، فطعموا وشربوا حتى ثملوا . فقالت خديجة لأبيها : إن محمدا بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه . فزوجها إياه . فخلقته وألبسته حلة – وكذلك كانوا يفعلون بالآباء -، فلما سرى عنه سكره ، نظر فإذا مخلق وعليه حلة ، فقال : ما شأني هذا ؟ قالت خديجة : زوجتني محمد بن عبد الله . قال : أُزوّج يتيم أبي طالب !؟ لا لعمري . فقالت : أما تستحي ؟! تريد أن تسفه نفسك عند قريش ، تخبر الناس أنك كنت سكران !! فلم تزل به حتى رضي " .
ويتزوج الشريف الشريفة ، وتمر الأيام والأعوام على ذلك البيت الهادئ الجميل ، ويُرزق منها بالبنين ، والنبي الكريم يُقري الضيف ، ويعين الملهوف ، وينصر المظلوم ، ويكون في حاجة أهله ..
ويجرف مكة سيل عرم وينحدر إلى البيت فيُصدّع جدرانه حتى أوشك على الوقوع والانهيار ، فاتفقت قبائل قريش على :

اربعون عاما قبل النبوة, ... الجزء الثالث

8-ابيض يستسقى الغمامه بوجهه--خرج أبو طالب يستسقي ، والسماء ما فيها من قزعة !! ومعه الغلام الصغير –صلى الله عليه وسلم- وبنيه ، فأخذ أبو طالب الغلام اليتيم الصغير - وهو يتذكر كلمات عبد المطلب : ( والله إن لهذا شأنا ) !! – فألصق ظهره بالكعبة واستسقى .
فأقبل السحاب من كل جانب ، وانفجرت السماء بماء منهمر ، فقال أبو طالب :
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه --- ثِمالُ اليتامى عصمة للأرامل

وتمر الأيام ... ويبلغ النبي الكريم اثنتي عشرة سنة ، وفي صيف حار تحركت ركائب قريش نحو الشام ، فكانت قصة :..9-بحيرى الراهب -

فارتحل أبو طالب بقومه ومعه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلما وصلوا إلى بُصرى نزل القوم للراحة ، فخرج إليهم بحيرى ولم تكن من عادته الخروج إليهم ، فتخللهم حتى جاء إلى الفتى الصغير وأخذ بيده وقال :
هذا سيد العالمين !! هذا رسول رب العالمين !! هذا يبعثه الله رحمة للعالمين !! .
فقال أبو طالب وأشياخ قريش : وما علمك بذلك ؟
فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خرّ ساجدا ، ولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، وإنّا نجده في كتبنا " .
ثم سأل أبا طالب ألا يذهب به إلى الشام خوفا عليه من الروم واليهود ، فرده أبو طالب بغلمان معه إلى مكة .

وتمر الأيام ... وقد شبّ النبي الكريم ، ولم يكن له عمل معين في أول شبابه . ولكن جاءت الروايات وتوالت بأن مهنته كانت :..10-رعى الغنم--

لقد كان يسير طوال نهاره خلف الغنم ، فرعاها في بني سعد ابتداءً ، ثم في مكة على قراريط لأهلها .
إن مهنة كهذه يُشترط لها أمانة مع طول نفس ، ولذا : ( ما من نبي إلا وقد رعى الغنم ) ، ولعل ذلك – والله أعلم - : لأن صورة القطيع شبيهة بسير سواد الأمم ، والراعي قائد يتطلب عليه أن يبحث عن الأماكن الخصبة والآمنة ، كما يتطلب ذلك حماية وحراسة لما قد يعترض قافلة السير .
وهذه المهنة فيها ما فيها من قسوة ومتابعة ، إلا أنها تُثمر قلبا عطوفا رقيقا ، وواقع حال رعاة الغنم خير شاهد على ذلك .
وبعيدا عن العمل وهمومه ، وبعيدا عن كدح البحث عن لقمة العيش نقف مع :11-نوازع نفس محمد(صلى الله عليه وسلم)-

يحدثنا النبي الكريم عن نفسه في تلك الفترة فيقول :
( ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء ، إلا ليلتين ، كلتاهما عصمني الله تعالى منهما ، قلت ليلة لبعض فتيان مكة – ونحن في رعاية غنم أهلنا – فقلت لصاحبي : أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة ، فأسمر فيها كما يسمر الفتيان . فقال : بلى .
فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير . فقلت :
ما هذا ؟ فقيل : تزوج فلان فلانة . فجلست أنظر ، وضرب الله على أذني ، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس . فرجعت إلى صاحبي ، فقال : ما فعلت ؟ فقلت : ما فعلت شيئا ، ثم أخبرته بالذي رأيت . ثم قلت له ليلة أخرى : أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة . ففعل ، فدخلت ، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة ، فسألت . فقيل : فلان نكح فلانة ، فجلست أنظر ، وضرب الله على أذني ، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس ، فرجعت إلى صاحبي فقال : ما فعلت ؟ قلت : لا شيء ، ثم أخبرته بالخبر ، فوالله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء ، حتى أكرمني اله بنبوته ) .
إنها الرعاية الربانية ، تقف للحيلولة بينه وبين تلك النوازع ، ولذلك جاء في الأثر :
( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) .
وتمر الأيام ... ليبلغ النبي الكريم عشرون عاما ، ليشهد حربا وقعت في شهر حرام ، فتُسمى بـ :

اربعون عاما قبل النبوة ... الجزء الثانى

4-شق الصدور--لقد أضجعه الرجلان ، ثم أخرجا منه علقة سوداء فألقياها ، فانتهت حظوظ الشيطان منه ، ثم غسلا قلبه في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم أعادا قلبه إلى مكانه ، فجاء الصغير إلى القوم وهو منتقع اللون . يقول أنس رضي الله عنه : ( وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره ) .
فلما رأت حليمة ذلك : خافت على الصغير من أن يصيبه شيء ، فاتخذت قرارا بـ.....5-رده الى امه الحنون-

فرجع الصغير إلى أحضان أمه ترعاه وتحنو عليه ، فكان عندها حتى بلغ ست سنين ،
لتتحرك عاطفة آمنة وشوقها إلى حيث توفي الزوج ويقطن الأهل ، فعزمت على السفر إلى يثرب ، فتحركت المطايا ، ومكثت شهرا في يثرب ، ليحين بعد ذلك وقت الرجوع ، وفي طريق السفر بين يثرب ومكة : توقفت المطايا في مكان يحمل في طياته ذكرى لا تزال عالقة بذاكرة الحبيب حتى بعد النبوة ، فمرّ يوما على قبر فانتهى إليه وجلس ، وجلس الناس حوله ، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب – كما يروي ذلك بريدة رضي الله عنه – ثم بكى بكاء لم يبكه من قبل ، فاستقبله عمر فقال :
يا رسول الله ما يبكيك ؟
فقال : ( هذا قبر آمنة بنت وهب ) !!
لقد توقفت المطايا في مكان يقال له الأبواء ، ليكون الصغير على موعد جديد مع اليتم ، وتؤخذ آمنة منه ، وتوارى بين ناظريه ، لينتقل الطفل باكيا إلى :6-جدو عبدالمطلب -

عاد صغير الآلام إلى الجد العطوف ، الذي رق له رقة شديدة ، فكان لا يدعه وحيدا ، بل جعله مقدما على أولاده وبنيه .
إن لعبد المطلب فراشا لا يجلس عليه غيره إجلالا له واحتراما ، فكان محمد الصغير هو الوحيد المصرح له بالجلوس ، فيأتي الأولاد والأبناء ليُبعدوه ، فيقول الجد :
" دعوه ، والله إن لهذا شأنا " !!!

وتمر الأيام ويبلغ الصغير ثمان سنين ، ليكون على موعد جديد مع الآلام ،
فها هو عبد المطلب يوارى الثرى ، لتكون وصيته الأخيرة ، أن يكون الصغير عند :

(7) عمه أبا طالب :
فنهض باليتيم على أكمل وجه ، وضمّه إلى بنيه وقدمه عليهم ، واختصه بمزيد احترام وتقدير .
وتمر الأيام ... ويأتي على قريش سنون عجاف ، أجدبت لها الأرض ، وكاد يهلك بها القوم ، فبات الناس في شظف من العيش ، فما كان من قريش إلا أن طلبوا من سيدهم أبا طالب أن يستسقي لهم ، فكان :7-عمه ابا طالب-

فنهض باليتيم على أكمل وجه ، وضمّه إلى بنيه وقدمه عليهم ، واختصه بمزيد احترام وتقدير .
وتمر الأيام ... ويأتي على قريش سنون عجاف ، أجدبت لها الأرض ، وكاد يهلك بها القوم ، فبات الناس في شظف من العيش ، فما كان من قريش إلا أن طلبوا من سيدهم أبا طالب أن يستسقي لهم ، فكان :

أربعون عاماً قبل النبوة.....الجزء الاول

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على الهادي البشير ، وعلى آله وصحبه أجمعين ..
فالسيرة العطرة ، سيرة خير البرية ، معين لا ينضب ، وينبوع صافٍ متدفق ، يرتوي من نميره كل من أراد السلامة والنجاة ، إنها شمس ساطعة ، وسناً مشرق ، ومشعل وضاء ، يبدد ظلمات الانحراف ، ويهدي سبيل الرشاد .
سأكتب عن أربعين عاماً من حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه .
أربعون عاماً كلها صفاء ونقاء .
أربعون عاماً تكلمت فيها الفطرة ، وتجلت فيها الصفات الحميدة ، وظهرت فيها العناية الربانية ، في إعداد سيد البرية .
أربعون عاماً هُيّأ العظيم فيها لأمر عظيم ، لتكون تلك الأربعين هي بداية التغيير للعالم السفلي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور التوحيد والعلم .
أربعون عاماً فيها أفراح وأتراح ، وآمال وآلام { وكان الله عليما حكيما } .
ابتدأت تلك الأربعين بـ :.... 1-ولاده تيميه-

توفي الوالد قبل الولادة ، بعد سعي في طلب لقمة العيش ، ليكون على موعد مع القدر في أرض يثرب ، مقبورا في أحد مقابرها !!
وأُودع الوالد والزوج الثرى ، لتعاني الوالدة الحنون آلام الوضع ، وآلام الفقد ، وآلام مستقبل طفل تيتم قبل خروجه للدنيا !!
وتأتي ساعة الصفر وتستبشر الدنيا بـ :.....2-ولادة محمد (صلى الله عليه وسلم).....

فيولد سيد المرسلين بشعب بني هاشم ، في صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول ، لأول عام من حادثة الفيل ، وقبل هجرته عليه الصلاة والسلام بثلاث وخمسين سنة ، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من شهر إبريل سنة ( 571 م ) ، حسبما ذكره بعض المحققين .
وفي مكان آخر بعيدا عن ذلك البيت الصغير الذي وُلد به ذلك العظيم :
وقف رجل يتأمل السماء والنجوم ، فإذا الأمر مختلف عن العادة ، فالآية قد ظهرت !!
فما كان منه إلا أن صرخ بقومه :
" يا معشر اليهود !!! "
فاجتمعوا إليه فقال : " طلع نجم أحمد الذي وُلد به في هذه الليلة " .
نعم .. لقد وُلد أحمد ، وها هو بين أحضان أمه ترضعه وتشاركها في ذلك : أم أيمن ، وثويبة مولاة أبي لهب .
وتمر الأيام .... وإذا بالرضيع في :....3-ديار بنى سعد --

فانتقل مع أمه حليمة السعدية لترضعه في مضارب بني سعد بن بكر ، على عادة العرب في التماس المراضع لأولادهم ، لتقوى أجسامهم ، ويتقنوا اللسان العربي من صغرهم .
وفي تلك المضارب نشأ محمد الصغير ..
وبها وقف ومشى على قدميه ..
وبها ضحك ولعب مع أقرانه الصغار ..
فأي براءة وجمال كانت تشع من عيني ذلك الطفل الطاهر !!
فصلوات ربي وسلامه عليه .
وفي تلك المضارب رعى الغنم ، وسار خلفها وقادها مع إخوانه من الرضاع .
وتمر الأيام على رعاة الغنم الصغار ، ويبلغ الصغير أربع سنين ، وبينما هو يلعب مع الغلمان ، إذ به يصرع ويضجع من رجلين عليهما ثياب بيض ، لينطلق المنادي إلى أمه بنداء الرعب والخوف : " لقد قُتل محمد!!! " .
فكان ذلك القتل هو :

أقبلت يا شهر الصيام...

الحمدلله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين ، نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين، أما بعد ....
لقد أقبل شهر الصيام بفضائله ، و فوائده، و هباته، و نفحاته ...
أقبل بأنفاسه العطرة، و ثغره الباسم، ووجهه المشرق ...
أقبل وهو ينادي ويقول : يا باغي الخير أقبل .. ويا باغي الشر أقصر ...
أقبل وهو يصرخ محذرا: (( ورغم أنف امرىء دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له))
أقبل فتفتحت بإقباله أبواب الجنان ... وغلقت أبواب النيران، و سلسلت الشياطين ..
أقبل و المسلمون يتشوقون الى صيام نهاره و قيام ليله ..
فيا له من شهر عظيم .. وموسم .. كريم .. و تجارة رابحة لن تبور .

وخذ في بيان الصوم غير مقصر = عبادة سر ضد طبع معود
وصبر لفقد الإلف في حالة الصبا = وفطم عن المحبوب و المتعود
فثق فيه بالوعد القديم من الذي = له الصوم يجزى غير مخلف موعد
وحافظ على شهر الصيام فإنه = لخامس أركان لدين محمد
تغلق أبواب الجحيم إذا أتى = وتفتح أبواب الجنان لعبد
تزخرف جنات النعيم و حورها = لأهل الرضا فيه و أهل التعبد
وقد خصه الله العظيم بليلة = على ألف شهر فضلت فلترصد
فأرغم بأنف القاطع الشهر غافلا = و أعظم بأجر المخلص المتعبد
فقم ليله و اطو نهارك صائما = و صن صومه عن كل لغو ومفسد
فيا عباد الله ! هذا شهر الصيام قد أقبل فماذا أنتم فاعلون ؟
يا أيها المقصر ! هذا الشهر - والله- فرصه لا تعوض للتوبة و الانابة و الرجوع الى الله عز و جل .. فإذا جاء رمضان و لم تتب فمتى تتوب؟ و إذا أقبل شهر الصيا و لم تعد فمتى تعود؟

إياك - أخي - أن تكون من الذين يكرهون رمضان، لأنه يمنعهم من شهواتهم و مألوفاتهم، فإن هؤلاء لا حظ لهم من صيامهم الا الجوع و العطش..
كيف يكرهون رمضان وفيه تغفر ذنوبهم ..
كيف يكرهون رمضان وفيه تقال عثراتهم ..
كيف يكرهون رمضان وفيه تستجاب دعواتهم ..
كيف يكرهون رمضان وفيه ترفع درجاتهم ..
* قال الامام ابن رجب في " لطائف المعارف ": ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل، لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام، ولهذا يقولون : هى أيام توديع الأكل، و تسمى تنحيسا، واشتقاقه من الأيام النحسات.
ذكره ابن درستويه النحوي، و ذكر أن أصل ذلك متلقى من النصارى، فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم، و هذا كله خطأ و جهل ممن ظنه.
وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحه، بل يتعدى الى المحرمات، و هذا هو الخسران المبين، و أنشد بعضهم في هذا :
إذا العشرون من شعبان ولت = فواصل شرب ليلك بالنهار
و لا تشرب بأقداح صغار = فإن الوقت ضاق على الصغار
يقصد شرب الخمر و العياذ بالله و قال آخر:
جاء شعبان منذرا بالصيام = فاسقياني راحا بماء الغمام
ومن كانت هذه حاله، فالبهائم أعقل منه، و له نصيب من قوله تعالى:
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) -الأعراف 179-
وربما تكَره كثير منهم بصيام رمضان، حتى أن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه، و كان للرشيد ابنٌ سفيه، فقال مرة:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر = و لا صمت بعد شهرا بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الأنام بقدرة = على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر
فأخذه داء الصرع، فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة ، و مات قبل أن يدركه رمضان آخر.
فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام، فيطول عليه ، و يشق علي نفسه مفارقتها لمألوفها، فهو يعد الأيام و الليالي ليعود إلى المعصية.
و هؤلاء مصرون على ما فعلوا و هم يعلمون ، فهم هلكى، و منهم من لا يصبر على المعاصي، فهو يواقعها في رمضان.
فمن أراد الله به خيرا حبب اليه الايمان ، و زينه في قلبه، و كره اليه الكفر و الفسوق و العصيان، فصار من الراشدين.
ومن أراد الله به شرا خلى بينه و بين نفسه ، فأتبعه الشيطان، فحبب اليه الكفر و الفسوق و العصيان ، فكان من الغاويين ..
فالحذر الحذر من المعاصي ..
فكم سلبت من نعم ..
وكم جلبت من نقم ..
وكم خربت من ديار ..
وكم وكم أخلت ديارا من أهلها .. فما أبقى منهم ديّار.
وكم أخذت من العصاة بالثار.
وكم محت لهم من آثار.
يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه = عواقب الذنب تُخشى وهي تُنتظر
فكل نفس ستُُجزى بالذي كسبت = وليس للخلق من ديّانهم وَزر (1)
أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ؟! ليلهم قيام ، و نهارهم صيام ..
 
باع قومٌ من السلف جارية ً .. فلما قرب شهر رمضان ، رأتهم يتأهبون له ، ويستعدون له بالأطعمة و غيرها .. فسألتهم ، فقالوا : نتهيأ لصيام رمضان. فقالت : و أنتم لا تصومون إلا رمضان؟ لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ... ردوني عليهم !!
 
و باع الحسن بن صالح جارية له ، فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: الصلاة الصلاة ... قالوا: طلع الفجر ؟ قالت : و أنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟ ثم جائت الحسن فقالت : بعتني إلى قوم سوء، لا يصلون إلا المكتوبة؟ .. ردني .. ردني ..
 
و كان أيوب السختياني يقوم الليل كله و يخفي ذلك، فإذا كان عند الصباح رفع صوته، كأنه قام تلك الساعة..
 
كان بعض السلف يختم القرآن في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، و بعضهم في كل عشر.
 
كان قتادة يختم في كل سبع دائما، و في رمضان في كل ثلاث، و في العشر الأواخر في كل ليلة.
 
و في حديث السائب بن يزيد قال: كان القارىء يقرأ بالمئين - أي المئات من الآيات- حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، و ماكانوا ينصرفون إلا عند الفجر.
 
قال علقمة بن قيس: بت مع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ليلة، فقام أول الليل يصلي، فكان يقرأ قراءة الامام في مسجد حيه، يرتل و يسمع من حوله ، و لا يرجع صوته حتى لم يبق من الغلس الا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها، ثم أوتر.
قال بعض السلف: صم الدنيا، و اجعل فطرك الموت.
الدنيا كلها شهر صيام المتقين، يصومون فيه عن الشهوات المحرمات، فإذا جاءهم الموت فقد انقضى صيامهم ، و استهلوا عيد فطرهم.
وقد صمت عن لذات دهري كلها = و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي
من صام عن شهواته ، أفطر عليها بعد مماته، و من تعجل ما حرم عليه قبل وفاته، عوقب بحرمانه في الآخرة و فواته، و شاهد ذلك قوله تعالى: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ) {الأحقاف 20}
وقول النبي صلى الله عليه و سلم: ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)) - متفق عليه-، و (( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) - متفق عليه
أنت في دار شتات = فتأهب لشتاتك
و اجعل الدنيا كيوم = صمته عن شهواتك
و ليكن فطرك عند الله = في يوم وفاتك
عباد الله ! بلوغ شهر رمضان و صيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، و كيف لا يكون ذلك و قد جعل الله أجر الصيام بغير حساب كما قال تعالى في الحديث القدسي: (( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، فإنه لي و أنا أجزي به)) - متفق عليه-، و في رواية مسلم: (( كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها غلى سبعمائة ضعف، قال تعالى: إلا الصوم فإنه لي و أنا أجزي به))
إخواني ! من رُحم في شهر الصوم فهو مرحوم، و من حرم خيره فهو محروم، ومن لم يتزود فيه لمعاده فهو ملوم ..
أتى رمضان مزرعة العباد = لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولا و فعلا = و زادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب و ما سقاها = تأوه نادما يوم الحصاد
فهنيئا لكم أيها الصائمون الأجر و المغفرة و العتق من النيران، ففي حديث أبي أمامة مرفوعا: (( ....و لله عتقاء من النار في كل ليلة)) - رواه الترمذي و ابن ماجة و حسنه الألباني.
وهنيئا لم استجابة دعواتكم ، و حصولكم مطلوبكم، فقد قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : (( إن لكل مسلم في كل يوم و ليلة - يعني في رمضان - دعوة مستجابة )) - رواه البزار، و قال الألباني: صحيح لغيره-
أما أنت أيها المحروم ، فما أردأ رأيك، و ما أخسر صفقتك، و أحقر فكرك ..
أتبيع الدر بالبعر و تزعم أنك عاقل ؟
أتطيع الشيطان و تعصي الرحمن و تتبجح بالفهم و المعرفة ؟
أتترك جنة عرضها السماوات و الأرض لأجل جيفة قذرة و تعد نفسك فطنا ذكيا أريبا؟!

فيا من طالت غيبته عن ربه، قد قربت أيام المصالحة.
يا من دامت خسارته .. قد أقبلت أيام التجارة الرابحة.
من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟ و من لم يقرب فيه من مولاه، فهو على بعده لا يبرح.
كم ينادي : حيّ على الفلاح و أنت خاسر !!.
كم تدعى إلى الصلاح و أنت على الفساد مثابر !!.
كم ممن أمّل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله، فصار قبله الى ظلمة القبر....
كم من مستقبل يوما لا يستكمله، و مؤمل غدا لا يدركه.
إنكم لو أبصرتم الأجل و مسيره ، لأبغضتم الأمل و غروره.
جاء شهر الصيام بالبركات = أكرم به من زائر هو آت
وصلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم.

الجمعة، 2 يونيو 2017

الاثنين، 29 مايو 2017

الجمعة، 26 مايو 2017

الإسلام دين اليسر والسماحة لا دين العنف والإرهاب..........

إن من نعم الله علينا وعلى الإنسانية إرسال نبينا محمدٍ صلي الله عليه وسلم بالحنيفية السمحاء رحمة للعالمين، وهذه الرحمة ذات صور من الود والتسامح والعفو والتناصح تضافرت نصوصها من القرآن والسنة، وتجسدت في تعامل المسلمين الأوائل مع المسلمين وغيرهم فقد اجتمعت الأقوال والأفعال فإذا بقاموس يشتمل على جميع مفردات السماحة يتحرك في شتّى نواحي الحياة. ومع هذا فإن بعض الناس الذين لا يعرفون حقيقة هذا الدين يظن أن الإسلام لا يعرف العفو والصفح والسماحة، وإنما جاء بالعنف والتطرف والسماجة، لأنهم لم يتحروا الحقائق من مصادرها الأصلية، وإنما اكتفوا بسماع الشائعات والافتراءات من أرباب الإلحاد والإفساد الذين عبدوا الشهوات ونهجوا مسلك الشبهات بما لديهم من أنواع وسائل الإعلام المتطورة، من أجل ذلك كان لا بد من بيان الحق ودمغ الباطل بالأدلة الساطعة والحقائق الناطقة من القرآن والسنة القولية والفعلية والتاريخ الأصيل.لذلك كان موضوعنا عن سماحة ويسر الإسلام ونبذ العنف والتشدد. ويتناول هذه العناصر الرئيسية التالية :ـ 1ـ مفهوم اليسر والسماحة . 2ـ الدين الإسلامي قائم علي اليسر والسماحة 3ـ من صور سماحة ويسر الإسلام . 4ـ منهج الإسلام في التعامل مع غير المسلمين . 5ـ شهادة التاريخ . 6ـ الفضل ما شهد به الأعداء .
1-مفهوم اليسر و السماحه- معنى اليسر: اللين والسهولة ، والانقياد ، ضد العسر . وهو: عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم ، أو بعبارة أخرى : هو عمل فيه يسر وسهولة وانقياد . ومعنى قوله – صلى الله عليه وسلم : إن هذا الدين يسر : قال ابن الأثير : ” اليسر ضد العسر ، أراد أنه سهل سمح قليل التشديد ” . وأما السماحة :ـ السمح : السهل ، والمسامحة : المساهلة .قال ابن فارس في مادة ” سمح ” السين والميم والحاء أصل يدل على سلاسة وسهولة و” الحنيفية السمحة ” : أي ليس فيها ضيق ولا شدة ؛ لكونها مبنية على السهولة . وهي : ” هي السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه . ومعنى كونها محمودة : أنها لا تفضي إلى ضرر أو فساد ” .
2-الدين الاسلامى قائم على اليسروالسماحه- لقد دعا الإسلام المسلمين إلى التحلي بخلق السَّمَاحَة، فإنَّ السَّمَاحَة من خلق الإسلام نفسه، فمن السَّمَاحَة عفو الله ومغفرته للمذنبين من عباده، وحلمه تبارك وتعالى على عباده، وتيسير الشريعة عليهم، وتخفيف التكاليف عنهم، ونهيهم عن الغلو في الدين، ونهيهم عن التشديد في الدين على عباد الله… – قال تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]. – وقال: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]. – وقال سبحانه: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28]. – ونهى النَّبي عن التنطع والتَّشدد في الدين، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون). قالها ثلاثًا رواه مسلم . – ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من يشق على المسلمين فقال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به) رواه مسلم . ولقد كانت رسالة النبي صلي الله عليه وسلم رحمة للبشرية رفع الله بها عن الناس الأغلال والأصار ، فقال تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]. فالدين الإسلامي يُسْرٌ في عقائده وأحكامه وفي أوامره ونواهيه ، فعقائده أصح العقائد وأصدقها وأنفعها ، وأخلاقه أحمد الأخلاق وأجملها وأطيبها ، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها وأقومها . ومن تأمَّل حُسن هذا الدين ونقاءه وصفاءه وبهاءه ويسره وسهولته ازداد تمسكاً به وتعظيماً له وقياماً بعقائده وأحكامه ؛ فقد ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم: (ان الدين يسر:ولن يشاد احد الا غلبه؛فسدوا وقاربوا وابشروا؛واستعينوا بلغدوة والروحه وشىءمن الدلجه) رواه البخاري واللفظ له، ومسلم . معنى قوله (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ): أي ميسَّرٌ مسهَّلٌ في عقائده وأخلاقه وأعماله ، وفي أفعاله وتروكه ؛ فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب وتوصل معتقِدَها والمتمسِّك بها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب . وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق وأصلح الأعمال ؛ بها صلاح الدين والدنيا والآخرة ، وبفواتها يفوت الصلاح كلُّه ، وهي كلها ميسرةٌ مسهَّلة ، كل مكلَّف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه ولا تكلفه ، عقائده صحيحةٌ بسيطة ، تقبلها العقول السليمة والفطر المستقيمة ، وفرائضه أسهل شيء يكون في الفرائض وأيسره ، فانظر إلي هذه الفرائض التي فرضها الله تعالي علي عباده تجد فيها اليسر والسماحة . فأما الصلوات الخمس :ـ فإنها تتكرر كلَّ يوم خمس مرات في أوقات مناسبة لها ، وتمَّم اللطيف الخبير سهولتها بإيجابها جماعة والاجتماع لها ، فإن الاجتماع في هذه العبادة من المنشطات والمسهلات لها ، ورتب عليها من خير الدين وصلاح الإيمان وثواب الله العاجل والآجل ما يوجب للمؤمن أن يستحليها ويحمد الله على فرضه لها على العباد ؛ إذ لا غنى لهم عنها وأما الزكاة :ـ فإنها لا تجب على فقير ليس عنده نصاب زكوي ، وإنما تجب على الأغنياء تتميماً لدينهم وإسلامهم، وتنميةً لأموالهم وأخلاقهم ، ودفعاً للآفات عنهم وعن أموالهم ، وتطهيراً لهم من السيئات ، مواساةً لمحاويجهم وفقرائهم ، وقياماً لمصالحهم الكلية ، وهي مع ذلك جزء يسير جداً بالنسبة إلى ما أعطاهم الله من المال والرزق . وأما الصيام :ـ فإن المفروض شهر واحد من كل عام ، يجتمع فيه المسلمون كلهم فيتركون فيه شهواتهم الأصلية من طعام وشراب ونكاح في النهار ، ويعوِّضهم الله عن ذلك من فضله وإحسانه تتميم دينهم وإيمانهم ، وزيادة كمالهم وأجره العظيم وبرِّه العميم ، وغير ذلك مما رتبه على الصيام من الخير الكثير ويكون سبباً لحصول التقوى التي ترجع إلى فعل الخيرات كلها وترك المنكرات . وأما الحج : ـ فإن الله لم يفرضه إلا على المستطيع وفي العمر مرة واحدة ، وفيه من المنافع الكثيرة الدينية والدنيوية ما لا يمكن تعداده ، كما قال الله تعالى {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [الحج:28] أي دينية ودنيوية . وهكذا بقية شرائع الإسلام كلها سهلة ميسَّرة ، وهي راجعةٌ إلى أداء حقِّ الله وحقِّ عباده ، وليس فيها أي مشقة أو حرج على المكلَّفين ، يقول الله تعالى : {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] . مشروعية الرخص :ـ الرخص نمط من التشريع يدل قطعاً على رفع الحرج والمشقة، ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف، والرخص كثيرة جداً، منها: قصر الصلاة في السفر، والمسح على الجوربين أو الخفين، والتيمم في حال فقدان الماء وعند تعذر استعماله لمرض وغيره، والفطر في الصيام للمريض أو للمسافر أو غير ذلك، وصلاة الإنسان وهو مريض جالساً أو حسب ما يستطيع، إلى غير ذلك. ولقد حث الشرع في الأخذ بهذه الرخص، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) إذاً الشرع لا يقصد بهذه التكاليف الشرعية أن يعنفنا وأن يوقعنا في الحرج وفي المشقة. وقد أجمع العلماء على عدم وقوع الحرج في التكليف، وهذا يدل على عدم قصد الشارع له، وهذا متقرر باستقراء آحاد الأحكام.
ومن صورسماحة الاسلام- السماحة واليسر في العبادة :ـ جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ‏يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ‏فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ ‏تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ ‏‏ ‏قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟!! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا؛ فَجَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ ‏ ‏إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: ‏”أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ: كَذَا وَكَذَا، أَمَا والله إِنِّي ‏لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي” (رواه البخاري، ومسلم ،والنسائي ، وأحمد..). ورأى النبي صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدودًا بين ساريتين فسأل عنه، فأخبر أنه لزينب تتمسك به إذا كسلت عن الصلاة، فأمر صلى الله عليه وسلم بإزالته وقال: (لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) (متفق عليه) وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يَا عَبْدَ الله، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟) قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ: (فَلاَ تَفْعَلْ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) ( متفق عليه ). السماحة واليسر في التعليم :ـ إن أساس الدعوة هو القول الليّن حتى لو كان المدعو من أعتَى الخلق، وهذا يتبين من قول الله تعالى لموسى وهارون (عليها السلام) لَمَّا أرسلهما إلى فرعون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشَى) (طه44). يقول ابن كثير بعد عرض أقوال المفسرين: والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس وأبلَغ وأنجَع. يقول تعالى مُرشداً لنبيه (صلى الله عليه وسلم): (إنَّ رَبَّكَ هُوَ أعْلَمُ بَمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ وَهُوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدين) (النحل 125). ويتجلّى هذا المنهج السليم في الدعوة إلى الله بالحكمة أولاً والموعظة الحسنة ثانياً. والجدال بالتي هي أحسن ثالثاً. وما وصف الموعظة والجدل بالإحسان إلا من باب تأكيد معنى السماحة في الدعوة وعدم اتخاذ العنف وسيلة لها. دخلَ أعرابِيٌّ المسجِدَ ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جالِسٌ ، فصلَّى ، فلما فرغَ قال : اللهمَّ ارحمني ومحمدًا ، ولَا ترحمْ معنا أحدًا ، فالتفَتَ إليهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال : لقدْ تَحَجَّرْتَ واسعًا ، فلم يلبثْ أنْ بالَ فِي المسجدِ ، فأسرعَ إليه الناسُ ، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : أهْريقوا عليْهِ سَجْلًا مِنْ ماءٍ ، أوْ دلْوًا مِنْ ماءٍ ، ثُمَّ قال : إِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَمْ تُبْعَثوا مُعَسِّريْنَ ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وصدق سيدي رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال :عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنفاً ولا متعنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) صحيح الجامع . السماحة واليسر في الأحكام :ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال { بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل . فقال : يا رسول الله ، هلكت . قال : ما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي ، وأنا صائم – وفي رواية : أصبت أهلي في رمضان – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال : لا . قال : فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر – والعرق : المكتل – قال : أين السائل ؟ قال : أنا . قال : خذ هذا ، فتصدق به . فقال الرجل : على أفقر مني : يا رسول الله ؟ فوالله ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه . ثم قال : أطعمه أهلك } . رواه البخاري . السماحة واليسر في البيع والشراء :ـ وعن جابر رضى الله عنه رسول الله صلى الله علية وسلم قال:(رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى )رواه البخاري. (إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) أي طلب قضاء حقه بسهولة والمراد بالسماحة ترك المضاجرة ونحوهما لا المماكسة في ذلك .
منهج الاسلام مع غير المسلم- 1ـ حرية الإعتقاد : لقد كفل الإسلام الحرية لكل فرد؛ فلا إكراه في الدخول في الإسلام إلا بعد القناعة التامة بهدايته؛ حيث قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، فدين الإسلام بيّن واضح جلي، دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحدًا على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا. 2 ـ عدم التعرض لهم بأي أذي :ـ لقد حرّم الإسلام التعرض بالأذى بالقول والفعل لكل معاهد أو مستأمن دخل ديار الإسلام؛ ووعد وأغلظ في العقوبة لمن تعرض لهم بالأذى؛ فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ) مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا (. 3 ـ الإحسان إليهم :ـ أمر بالإحسان إلى غير المسلمين الذين لم يعرف لهم أذية للمسلمين ولا قتالهم؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، بل فوق ذلك أمر بصلتهم والإنفاق عليهم، فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: ) قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ (. وأوجب على المسلمين سلوك العدل في التعامل مع غيرهم؛ ولم يجعل عدم دخولهم في الإسلام سببًا في ظلمهم أو خيانتهم، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (المائدة: 8) . وأكثر من ذلك أن الإسلام ضمن لغير المسلمين في ظل دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه، لأنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته” . (متفق عليه) ، وهذا ما مضت به سُنَّة الراشدين ومَن بعدهم. ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق، وكانوا من النصارى: “وجعلت لهم، أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله” . . وكان هذا في عهد أبي بكر الصِّدِّيق، وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصِّدِّيق ولم ينكر عليه أحد، ومثل هذا يُعَد إجماعًا. ورأى عمر بن الخطاب شيخًا يهوديًا يسأل الناس، فسأله عن ذلك، فعرف أن الشيخوخة والحاجة ألجأتاه إلى ذلك، فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين، وأمره أن يفرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيهم ويصلح شأنهم، وقال في ذلك: ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًا، ثم نخذله عند الهرم! 4ـ الحفاظ علي دور العبادة :ـ لقد صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى: (أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا). (الحج: 39 – 40) وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم. وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم: “هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . . ” كما رواه الطبري . وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات: “ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم” . وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين، وحُرمة دينهم، فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية، ولا يحدثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم يكن لهم فيها كنيسة من قبل، وذلك لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي مما قد يؤدي إلى فتنة واضطراب. كذلك حرم التعرض لدور العبادة التي يتعبد فيها غير المسلمين عند نشوب حرب بين المسلمين وغيرهم، بل وحرم قتل من لم يشارك في تلك الحرب من النساء والأطفال؛ فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا (. وكان من وصايا أبي بكر الصديق – رضي الله عنه- لأمرائه على الحرب قوله: (وستمرون على قوم في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها، فدعهم حتى يميتهم الله فيها على ضلالتهم، يا يزيد: لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا صغيرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شجرا مثمرا، ولا دابة عجماء، ولا بقرة ولا شاة إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن) العنصر الخامس شهادة التاريخ :ـ والتاريخ خير شاهد علي سماحة ويسر الإسلام مع غيره ، وقبل أن نذكر سماحة الإسلام مع غيره لا بد أن نري .. كيف تعامل غير المسلمين مع المسلمين …. اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر…. ضل قوم ليس يدرون الخبر هل سمعتم ماحدث في الأندولس هذه الحضارة العظيمة عندما سقطت الأندلس بعد قرون من البناء والتقدم والازدهار وإشاعة العدل والتسامح مع جميع السكان من ذوي الأديان المختلفة كانت إبادة المسلمين في الأندلس وصمة عار أخرى على النصارى الصليبيين رغم السماحة التي عومل فيها النصارى من أهل أسبانيا طوال قرون خلت، إذ سمح المسلمون لهم أن يحتفظوا بشرائعهم وقضاتهم، وعُيّن لهم حكام للأقاليم من أنفسهم، فتأمل في هذه المعاملة وبين ما فعله النصارى بمسلمي الأندلس حيث وصف الحال الشاعر أبو البقاء الرندي هذه المأساة في قصيدته المشهورة حيث يقول فيها:
تبكي الحنيفيـة البيضـاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمـان حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهـن إلا نواقيـس وصلبـان حتى المحاريب تبكي وهي جامـدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان لمثل هـذا يـذوب القلب من كمـد إن كان في القلب إسلام وإيمان
واسمع معي شهود عيان منهم وهم يصفون ما حدث منهم مع المسلمين … ذكر المؤرخ الصليبي ميشو أن المسلمين كانوا يُذْبَحُون ذبح النعام في الشوارع والمنازل، وأنهم لم يجدوا مكانًا آمنًا يَلُوذون به. وذكر المؤرخ النصراني وِلْيَم الصوري أن بيتَ المقدس أصبح مخاضة واسعة من دماء المسلمين، أثارت خوف الغُزاة واشْمِئْزازهم، وأنه لم يكن من الممكن النظر إلى تلك الأعداد الضخمة من القتلى دون الإحساس بالرعب، ففي كل مكان ترى بقايا جثث القتلى مقطوعي الرؤوس والأيدي، وكانت الأرضُ مغطاةً بدماء القتلى. ونقل المؤرخ الغربي النصراني ديورانت عمن حضروا تلك المذابح وشاركوا فيها قولهم: “إنَّ النساء كن يُقتلن طعنًا بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار، أو تُهَشَّم رؤوسهم بدقها بالعمد”. وذكر صاحب كتاب “أعمال الفرنجة”: “أن جثث قتلى المسلمين وُضعت في أكوامٍ حتى حاذتِ البُيُوتَ ارتفاعًا”. وقد اختصر الصليبيّون وصف هذه المذابح العظيمة في الرسالة التي أرسلوها إلى البابا يخبرونه بما فعلوا قائلين: “إذا ما أردت أن تعلمَ ما جرى لأعدائنا الذين وجدناهم بالمدينة، فثِقْ أنَّه في إيوان سليمان أو معبده كانت خيولنا تخوض في بحر من دماء الشرقيين المتدفّقة إلى ركبتيها”. ولا أظن أن أحداً نسي ما حصل من مذابح في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وجنين وباقي المخيمات الفلسطينية. وما مذبحة المسجد الإبراهيمي عنا ببعيد فقد حصد المجرمون عشرات المصلين وهم ركع سجود في شهر رمضان المبارك من عام 1414هـ. وانظر أخي المسلم رغم كل ما حدث من الصليبيين تجاه المسلمين كيف تعامل معهم صلاح الدين :ـ ومع ما فعله الصليبيون في القدس فاننا نرى رحمة الإسلام ومسامحته حتى مع هؤلاء االصليبيين، فقد وصف المؤرخون ما حدث في اليوم الذي دخل فيه صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه إلى القدس فاتحـا : لم ينتقم أو يقتل أو يذبح بل اشتهر المسلمون الظافرون في الواقع بالاستقـامة والإنسانية . فبينـما كان الصليبيون منذ ثمان وثمانين سنة يخوضـون في دماء ضحاياهم المسـلمين،لم تتعرض أي دار من دور بيت المقدس للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه ؛ اذ صار رجال الشرطة يطوفون بالشوارع والأبواب – تنفيذا لأمر صلاح الدين – لمنع كل اعتداء يحتمل وقوعه على المسيحيين : وقد تأثر الملك العادل لمنظر بؤس الأسرى فطلب من أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير، فوهبهم له، فأطلق العادل سراحهم على الفور، وأعلن صلاح الدين أنه سوف يطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز . وأقبل نساء الصليبيين وقد امتلأت عيونهن بالدموع فسألن صلاح الدين أين يكون مصـيرهن بعد أن لقي أزواجهن أو آباؤهن مصرعهم، أو وقعوا في الأسر، فأجاب صلاح الدين بأن وعد بإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا – كل بحسب حالته – فكانت رحمته وعطفه نقيض أفعال الصليبيين الغزاة. أما بالنسبة لرجال الكنيسة أنفسهم – وعلى رأسهم بطـريرك بيت المقدس – فإنهـم لم يهتـموا إلا بأنفسهم، وقد ذهل المسلمون حينما رأوا البطريرك هرقل وهو يؤدي عشرة دنانير( مقدار الفدية المطلوبة منه) ويغادر المدينة، وقد انحنت قامته لثقل ما يحمله من الذهب، وقد تبعته عربات تحمل ما بحـوزته من الأموال والجواهر والأواني النفيسة . لماذا لا تنتقم من أعدائك؟! بينما كان صلاح الدين سائرًا ذات يوم في بعض طرق مدينة بيت المقدس قابله شيخ من النصارى كبير السن، يعلِّق صليبًا ذهبيًّا في رقبته، وقال له: أيها القائد العظيم، لقد كُتِبَ لك النصرُ على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟ فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزَوْا بيت المقدس؟ فقال له صلاح الدين: أيها الشيخ، يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة بالضعفاء، ويُحَرِّم عليَّ قتل الأطفال والشيوخ والنساء. فقال له الشيخ: وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟ فأجابه صلاح الدين: نعم، إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمَّن أذنب. فقال الشيخ: نِعْمَ الدين دينكم، وإني أحمد الله على أن هداني في أيامي الأخيرة إلى الدين الحقِّ. ثم سأل: وماذا يفعل مَن يُريد الدخول في دينكم؟ فأجابه صلاح الدين: يُؤمن بأن الله واحد لا شريك له، وأن محمدًا صلي الله عليه وسلم عبده ورسوله، ويفعل ما أمر الله به، ويبتعد عما نهى الله عنه. وأسلم الرجل وحَسُن إسلامه، وأسلم معه كثير من أبناء قومه.
فضل ما شهدت به الاعداء-(شهد الأنام بفضله حتى العدى والفضل ما شهدت به الأعداء) ومما يؤكد سماحة الإسلام تلك الشهادات التي نطق بها غير المسلمين وأدوها من غير إكراه؛ وإنما هو منهم إنصاف للحقيقة؛ لما رأوه في الإسلام من عدل وتسامح لا مثيل له. فمن ذلك يقول الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا: “إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم، الأمر الذي فقدته المسيحية، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، والدين والعلم، والعقل والمادة”. ويقول غوستاف لوبون: فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم. ويبين الشاعر غوته ملامح هذا التسامح في كتابه (أخلاق المسلمين) فيقول: “للحق أقول: إن تسامح المسلم ليس من ضعف، ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه، وتمسكه بعقيدته”.ويقول الفيلسوف جورج برناردشو “الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها، ولا نجد في الأديان حسناته! ولقد كان الإسلام موضع تقديري السامي دائمًا، لأنه الدين الوحيد الذي له ملكة هضم أطوار الحياة المختلفة، والذي يملك القدرة على جذب القلوب عبر العصور، وقد برهن الإسلام من ساعاته الأولى على أنه دين الأجناس جميعًا؛ إذ ضم سلمان الفارسي، وبلالًا الحبشي، وصهيبًا الرومي، فانصهر الجميع في بوتقة واحدة”. وبعد هذه النصوص الشرعية الإسلامية؛ والشهادات التي من غير المسلمين؛ هل يصح لأحد أن يقول أن الدين الإسلامي دين إقصائي؛ أو أنه دين يدعو إلى التطرف، أو أنه يزرع الكراهية في نفوس أتباعه؛ فما تلك الادعاءات إلا زورًا وكذبًا وبهتانًا على الدين العظيم الذي ارتضاه الله -عز وجل- للبشرية جمعاء. الخاتمة :ـ أيها المسلمون :ـ هذا هو الدين العظيم الذي شهد الله العظيم بصحته وكماله ، وشهد بذلك الكُمَّل من الخلق : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } (آل عمران:18-19) وهو الدين الذي من اتصف به جمَعَ الله له جمال الظاهر والباطن ، وكمال الأخلاق والأعمال {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (النساء:125)، فلا أحد أحسن من هذا الذي انصبغ قلبه بالإخلاص والتوحيد، واستقامت أخلاقه وأعماله على الهداية والتسديد . وهو الدين الذي أصلح الله به العقائد والأخلاق ، وأصلح به الحياة الدنيا والآخرة ، وألَّف به القلوب المشتَّـتة والأهواء المتفرقة ، فخلصها من براثين الباطل ودلَّها إلى الحق وهداها إلى سواء الصراط . إن الواجب علينا نحن المسلمين أن نحمد الله على هذه النعمة العظمى والمنة الجسيمة ، وأن نستشعر فضل الله علينا بها قال تعالي { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17)، وأن نقوم بحق هذه النعمة كما ينبغي ، وذلك بالتزود من علوم هذا الدين والتعرف على عقائده وأحكامه وآدابه ، مع التمسك الصادق والاستسلام الكامل ، وإقامة الوجه للدين القيم الحنيف بلا غلوٍّ ولا شطط ، وبلا إفراط أو تفريط ، وأن نطلب العون في تحقيق ذلك وتكميله من الله وحده ؛ فهو المستعان .
انتهت بفضل الله تعالي

( من قال رضيت بالله ربا ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولا وجبت له الجنة )....

أولا :
هذا الحديث يرويه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ قَالَ : رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ )
رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (6/36)، وعبد بن حميد في " المسند " (ص308)، وأبوداود في " السنن " (رقم/1529)، والنسائي في " السنن الكبرى " (9/7)، وابن حبان في " صحيحه " (3/144)، والحاكم في " المستدرك " (1/699) وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ".
جميعهم من طريق زيد بن الحباب ، حدثنا عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني ، حدثني أبو هانئ الخولاني ، أنه سمع أبا علي الجنبي ، أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه .
وهذا إسناد صحيح ، رجاله ثقات ، ليس فيه مطعن ظاهر .
وجاء الحديث أيضا بلفظ قريب من اللفظ السابق ، رواه أحد تلاميذ أبي هانئ الخولاني ، وهو عبدالله بن وهب ، عن أبي هانئ ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي – وليس عن أبي علي الجنبي – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَا أَبَا سَعِيدٍ ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ . فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ ، فَقَالَ : أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَفَعَلَ ، ثُمَّ قَالَ : وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، قَالَ : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ) .
رواه الإمام مسلم في " صحيحه " (رقم/1884) والنسائي في " السنن الكبرى " (9/7) وقال – منبها على الاختلاف على أبي هانئ - : " خالفه عبد الله بن وهب ، رواه عن أبي هانئ ، عن أبي عبد الرحمن ، عن أبي سعيد ", وقال الطبراني في " المعجم الأوسط " (8/ 317): " ورواه الليث بن سعد ، وعبد الله بن وهب ، عن أبي هانئ ، عن أبي عبد الرحمن ، عن أبي سعيد ".
وهذا الاختلاف في الإسناد على أبي هانئ لا يضر إن شاء الله ، فسياق الحديث واحد تقريبا ، وإن كان الأرجح هو السياق الثاني ، وذلك لثلاثة أدلة :
الدليل الأول : أن عبدالله بن وهب أوثق من عبد الرحمن بن شريح ، فقد كان أحد الأئمة الأعلام ، وجاء في ترجمته في " تهذيب التهذيب " (6/73): " قال الحارث بن مسكين : جمع ابن وهب الفقه ، والرواية ، والعبادة ، ورزق من العلماء محبة وحظوة من مالك وغيره . وكان يسمى ديوان العلم ، قال ابن القاسم : لو مات ابن عيينة لضربت إلى ابن وهب أكباد الإبل ، ما دون العلم أحد تدوينه ، وكانت المشيخة إذا رأته خضعت له ".
الدليل الثاني : أن السياق الثاني أخرجه واختاره الإمام مسلم رحمه الله ، وانتقاء مسلم أولى من انتقاء غيره ، فقد أجمعت الأمة على جلالة صحيحه ودقته وحسن انتقائه .
الدليل الثالث : ثم إن الطبراني في " المعجم الأوسط " (8/317)، والبيهقي في " شعب الإيمان " (6/ 118) روياه من طريق عبدالله بن صالح ، عن عبدالرحمن بن شريح ، عن أبي هانئ ، باللفظ الذي روى به عبدالله بن وهب عن أبي هانئ ، ما يدل على أن الأصل الثابت هو سياق حديث عبد الله بن وهب .
ثانيا :
يقول ابن القيم رحمه الله – في التعليق على هذا الحديث ، وحديث ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ) -:
" هذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين ، وإليهما تنتهي ، وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته ، والرضا برسوله والانقياد له ، والرضا بدينه والتسليم له ، ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا . وهي سهلة بالدعوى واللسان ، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان ، ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها .
فالرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده ، وخوفه ، ورجائه ، والإنابة إليه ، والتبتل إليه ، وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه ، وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له .
والرضا بربوبيته يتضمن الرضا بتدبيره لعبده ، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه ، والاستعانة به ، والثقة به ، والاعتماد عليه ، وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به .
فالأول يتضمن رضاه بما يؤمر به . والثاني يتضمن رضاه بما يُقدَّر عليه .
وأما الرضا بنبيه رسولا فيتضمن كمال الانقياد له ، والتسليم المطلق إليه ، بحيث يكون أولى به من نفسه ، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته ، ولا يحاكم إلا إليه ، ولا يحكم عليه غيره ، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة ، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته ، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه ، لا يرضى في ذلك بحكم غيره ، ولا يرضى إلا بحكمه ، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم ، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور .
وأما الرضا بدينه فإذا قال ، أو حكم ، أو أمر ، أو نهى : رضي كل الرضا ، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه ، وسلم له تسليما ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها ، أو قول مقلده وشيخه وطائفته ، وهاهنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم ، فإياك أن تستوحش من الاغتراب والتفرد ، فإنه والله عين العزة ، والصحبة مع الله ورسوله ، وروح الأنس به ، والرضا به ربا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ، وبالإسلام دينا ... فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض حصل له الرضا ولا بد ، ولكن لعزته وعدم إجابة أكثر النفوس له وصعوبته عليها لم يوجبه الله على خلقه رحمة بهم ، وتخفيفا عنهم ، لكن ندبهم إليه ، وأثنى على أهله ، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم ، الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها .
فمن رضي عن ربه رضي الله عنه ، بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه ، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده : رضا قبله أوجب له أن يرضى عنه ، ورضا بعده هو ثمرة رضاه عنه ، ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العارفين ، وحياة المحبين ، ونعيم العابدين ، وقرة عيون المشتاقين " انتهى باختصار من " مدارج السالكين " (2/171).
وقال بدر الدين العيني رحمه الله :
" قوله : ( رضيت بالله ربا ) أي : قنعتُ به ، واكتفيت به ، ولم أطلب معه غيره . قوله : (وبالإسلام دينًا ) أي : رضيت بالإسلام دينا بمعنى : لم أسْع في غير طريق الإسلام ، ولم أسْلك إلا ما يوافق شريعة محمد- عليه السلام . قوله : ( وبمحمد رسولا ) أي : رضيت بمحمد رسولا بمعنى : آمنتُ به في كونه مُرسلا إليّ وإلى سائر المسلمين . وانتصاب " ربا " و " دينًا "
و" رسولا " على التمييز ، والتمييز وإن كان الأصل أن يكون في المعنى فاعلا يجوز أن يكون مفعولا أيضًا كقوله تعالى ( وفجرْنا الأرْض عُيُونًا ) ويجوز أن يكون نصبها على المفعولية لأن" رضِي " إذا عُدي بالباء يتعدى إلى مفعول آخر " انتهى من " شرح سنن أبي داود " (5/439)
والله أعلم .